English Français | |
يقدم الموقع لزائريه أعمالاً فكرية تتطور على مساحة نصف قرن ونيف، يجدلها هم مشترك وكأنها فقرات في كتاب واحد، شذرات في لعبة (بزل) واحدة: إنها قصة حب انطلقت بداية من قضية التنمية في سوريا وبلدان العالم الثالث، ثم توجهت إلى النظام العالمي الذي علمتني التجربة أنه يشكل شرطها المباشر، ومنه صعوداً إلى التنمية في البشر، إلى الإنسان بالذات. أليس الإنسان هو البداية والنهاية، الصانع والهدف في آن؟
لا أزعم، أو أكاد، أنني فعلت هذا باختياري الواعي، لقد كان تطور الواقع هو الأقوى وقد فرض نفسه عليّ.
منذ نحو قرن وعالمنا يغلي بالمشكلات والصراعات والأخطار الكبرى والتي تقتضي الضرورة معالجتها من جذورها. لكن القوى السائدة في النظام العالمي تبدو منشغلة بالجزئيات، بحل المسائل الطارئة بحجة أن هذه عاجلة ولا تحتمل التأجيل، متناسية أن تلك التحديات أشد إلحاحاً لأن إهمالها أو ملامستها بلطف يزيد في تفاقمها وخطر تحولها إلى كوارث قاتلة. بمقابل ذلك، تراكمت بتصرف تلك القوى ثروات مالية وقدرات علمية ورقابية خيالية بحيث أصبح باستطاعتها فعل أي شيء، إطلاقاً، تحويل "الحلم إلى حقيقة"، كما يقول الشاعر.
باستطاعتها ذلك؟ نعم، ولكن هل تتمناه أو تريده حقاً؟ لنقل إنها تريد وإن على طريقتها الخاصة، أي بشرط أن لا تتعرض امتيازاتها لخطر أو خسارة. لذا فهي لا تني تسعى جاهدة لامتلاك السيطرة المطلقة بهدف إبقاء تلك المشكلات تحت رقابتها الفعلية والتغلب عليها نهائياً. كيف ذلك؟ عن طريق تسريع التقدم العلمي والنمو الاقتصادي وزيادة القوة العسكرية وبسط هيمنتها الإعلامية وضبط أي محاولة تمرد أو حركة إرهابية تواجهها، وحتى بتكييف البشر والعلوم والمؤسسات مع مقتضياتها، وهنا الخطر الأعظم. هكذا تحقق خرافة "نهاية التاريخ" لصالح نظامها الرأسمالي العتيد، نظام "اقتصاد السوق"، كما يحلو لها أن تسميه في خطاب الـ"ما بعد"، والتي تتكفل وسائل الإعلام بترسيخه في الأذهان وتبخيس أو عزل أي فكر نقدي يعارضه.
غير أن غليان الأحداث العالمية الجارية والمتوقعة، وبخاصة في منطقتنا العربية والشرق أوسطية، يشكل بحد ذاته نقداً بل نقضاً صارماً لهذا الزيف ويبدده باستمرار، بينما يُبرِز الضروري الذي يدق الأبواب بقوة حتى ليبدو أنه قادم لا محالة، وإن زعَمَ الخطاب، عكس ذلك، أن لا بديل واقعي، لا بديل ممكن. هذا الزعم المخاتل يكذبه مكر الواقع الذي يخبرنا أن "الضروري يختلف جذرياً عن هذا وذاك"، وهو ما تثبته أحداث كبرى في التاريخ وما لاحظه نبهاء كثيرون. قادم لا محالة؟ هذا يعني أنه من مهمات زماننا وأنّ على أبناء قرننا الواحد والعشرين بذل الاجتهاد والجهاد لتسهيل ولادته بأقل قدر ممكن من الآلام.