English Français | |
تجدون هنا تعريفاً مكثفاً بالهم الفكري-الأخلاقي الذي تعبر عنه الأعمال المنشورة في الموقع، والتي تندرج في إطار العنوان التالي: تنمية - حداثة دون ضفاف.
أتاحت لي الظروف أن أكون شاهداً على الأحداث والظواهر التي جرت في الساحة العالمية، وفي بلدي سورية والمنطقة العربية بخاصة، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أن أراقب تطوراتها وأشارك فيها وجدانياً دائماً، وإلى حد ما عملياً.
خلال عقد الخمسينات، مارست العمل الجمركي فاكتسبت منه معرفة عملية بحركة التجارة والتنمية، وفي آن حصلت على الإجازة في الحقوق، ثم انتقلت قبيل نهاية العقد إياه إلى العاصمة البلغارية التي أقمت فيها نحو عام وشاهدت عن كثب بعض أوجه الاشتراكية في التطبيق العملي. في جامعة جنيف، عاصمة المنظمات الدولية، مدينة كالفن وروسو، تابعت الدراسات العليا في الحقوق الدولية العامة ثم في الاقتصاد؛ وفيها وفي أجواء منظمة الأمم المتحدة أتممت أبحاثي الأكاديمية في موضوع أطروحتي للدكتوراه: الثقافة والتنمية الاقتصادية في سورية والبلدان المخلَّفة 1.
أكسبتني إقامتي الطويلة في جنيف (1960-1970) تجربة زاخرة زودتني بمعرفة عملية ملموسة بالثقافة الأوربية وبالعلاقات الدولية بشكل عام، وكونت جزءاً هاماً من ثقافتي العامة.
في العقدين التاليين (1970-1990) مارست في دمشق مختلف أنواع الأعمال، من أبحاث نظرية، ودراسات، ومحاضرات، وكتابة صحفية، وإدارة اقتصادية عليا وغيرها. وأثناءها دعيت من قبل منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية التي كُلفتني بدراسة التجربة التنموية في جمهورية موريتانيا الإسلامية، حيث أقمت خلال بضعة أشهر في فيينا ثم في نواكشوط فتعرفت ميدانياً على واقع التجربة المدروسة، وشاهدت بأم العين حقيقة التخلف المأساوية والأثر القبيح فيها للاستغلال الاستعماري.
عرف عالمنا المعاصر أربعة مشاريع أساسية للتنمية والتحديث، هي:
هذه البدائل الأربعة نشأت من صلب المشروع الرأسمالي الليبرالي الذي حمل منفرداً مسؤولية الحداثة والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، لكنه تورط في أزمات وحروب قادته إلى أزمته العامة بدءاً بعام 1914ثم إلى أزمته الكبرى في عام 1928 وبعدها.
صحيح أن فشله هذا اضطره حينئذ إلى إخلاء المكان للبدائل المذكورة، غير أنه لم يستسلم لها نهائياً، بل على العكس، أثار في وجهها حرباً شعواء عرفت باسم "الحرب الباردة" امتدت على نحو نصف قرن وأدت إلى إنهاكها والعالم معها مهيأة الشروط لسقوطها. وهذا ما حدث بالفعل في عقد الثمانينات حيث حققت القوى المحافظة انتصاراً باهراً وأقامت مشروعها الليبرالي الجديد، مستفيدة بخاصة من الانهيار المخزي للاشتراكية ومن الثورة العلمية الجامحة في البلدان الغربية. هكذا وخلال سنوات قليلة شهد العالم، بزعامة البرجوازية الأميركية، انقلاباً كاملاً في العلاقات السياسية والاقتصادية، نوعاً من الثورة المحافظة التي فرضت سيطرتها على العالم، متنكرة حتى للأفكار ذاتها التي صنعت عظمة الحضارة الغربية: الحداثة، الأنوار، التقدم، الدولة الوطنية السيدة وغيرها. فقد بخست هذه الأفكار وجميع المشاريع السابقة وفرضت مكانها، تحت عنوان العولمة، خطابها الوحيد المبشر بنظام عالمي جديد يكون كقرية كونية يتعايش فيها البشر جميعاً، دون تمييز ولا حدود، أحراراً آمنين، ينعمون بالسلام والازدهار.
لقد عشت هذه الأجواء بقلق وحيرة زمناً، طارحاً على ثقافتي تساؤلات أحدثت فيها ما يشبه الثورة الوجدانية: لماذا حدث ما حدث، وأين يكمن الخطأ؟ هل كانت أفكارنا زائفة فتكون الحياة إذن خلّبية، حيوانية بحتة؟ أم أن الانقلاب الذي حدث يجسد قانوناً موضوعياً في التطور التاريخي طويل المدى؟ وكيف يمكننا إذن تصور الغد الآتي؟
أحسست عندئذ أن ثقافتي الاقتصادية والعامة لا تسمح لي بالوصول إلى الجواب الشافي على تساؤلاتي، فتوجهت إلى الفلسفة وغيرها من علوم الإنسان والمجتمع حاملاً مشعل البحث عن الحقيقة. اكتشفت الكثير وأعدت النظر دون هوادة بما في نفسي وفي منهج تفكيري ولا أزال أفعل ذلك دون توقف. لقد تعلمت بخاصة أن الجواب الصحيح على تساؤلاتي والعمل المجدي للسير إلى أمام، لا يأتيان من خارج الواقع وإنما يواكبانه يداً بيد كالعاشقين؛ تعلّمت أن التغيير له شروطه وزمانه، وإذا ما قسرناه حرن أو ارتد؛ تعلّمت أن من المهم أن نريد ونعمل بجد، لكن الأهم أن يأتي عملنا في الوقت المناسب، وبالتالي "علينا أن نتعلم الانتظار" وفي آن أن نهيئ التربة لنمو الزرع؛ تعلمت وأتعلم في كل يوم أشياء وأشياء دون حصر.
وماذا عن الواقع؟ هل وفى المشروع الليبرالي بوعوده الخيالية؟ هل صار العالم قرية كونية آمنة؟ إن ما شهده العالم في التسعينات المنصرمة وما نشهده اليوم هو أقرب ما يكون إلى الشطح والجنون: غلو لا حدود له في الفقر وفي الثراء، في الفساد والتلوث، في الحروب والجرائم، في التوحش والنذالة، في احتقار الديمقراطية والإنسان، في التسابق وراء أرقام التميز، غلو وتورُم في كل شيء. وفي كل مكان خيبات تتوالى وأعظمها ينبسط في منطقتنا العربية.
إذن، هل وصل المشروع اليوم إلى نهاياته، كما قد تنبئ بذلك فضائح وإفلاسات الشركات والبنوك الكبرى، والأزمة المالية الراهنة (2008-2009) والأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق؟ إنها، على كل حال، تثبت فشل المشروع وفقدان مشروعيته، علائم عصر ينتهي تقابلها براعم عصر آخر يأتي.
ومع هذا لا يكف أنصار العولمة يعلنون باطمئنان أن لا بديل (There is no alternative) ويعملون بهذا ماكرين، وغير آبهين. آخرون يعلنون أن لا بديل، عن قنوط أو عن كسل أو هروب. أيكون البديل الوحيد، إذاً، الكارثة؟ غير إن الواقع يسخر من الجميع، إنه سيد الماكرين.
البديل! تلك هي كلمة السر، المسألة التي تطرحها البشرية اليوم على نفسها. لكن التاريخ والعلم يعلماننا أن البديل المنشود لا يخرج جاهزاً من دماغ عبقري، وإنما يأتي به الواقع. وما الواقع؟ بكل تأكيد، ليس الواقع أشياء وأحداث منفصلة عن البشر، إنه أعمال البشر الفاعلة في الأشياء. صناعة البديل التي بدأت منذ قرن أو نحوه، نعلم أنها تجارب فشلت، مهمتنا أبناء القرن الواحد والعشرين هي إذن أن ندرس، نصحح، نستكمل.
البديل، التنمية والحداثة دون ضفاف، هذه ليست كلمات، صياغات ذهنية، إنها سيرورة جدلية معقدة من التحولات لها شروطها، معاركها، معا رجها، إنها علم كامل، وتحت أنواره أطمح أن أدرج مدونتي بما تحمله من أعمال سابقة ومن أفكار وخواطر يثيرها في ذهني الواقع الحاضر، إسهاماً في مواجهة التحديات والأخطار التي تهدد وجودنا.
1. كلمة "مخلَّفة" من صياغة المؤلف في الأطروحة نفسها.